You dont have javascript enabled! Please enable it!
Switch Mode
نظرًا لتوقف عرض الإعلانات على الموقع بسبب حظره من شركات الإعلانات ، فإننا نعتمد الآن بشكل كامل على دعم قرائنا الكرام لتغطية تكاليف تشغيل الموقع وتوجيه الفائض نحو دعم المترجمين. للمساهمة ودعم الموقع عن طريق الباي بال , يمكنك النقر على الرابط التالي
paypal.me/IbrahimShazly
هذا المحتوى ترفيهي فقط ولايمت لديننا بأي صلة. لا تجعلوا القراءة تلهيكم عن صلواتكم و واجباتكم.

سجلات الباحث 2

البديهيات مفقودة

البديهيات مفقودة

الليلة لم تكن كسابقاتها. الرياح، باردة بشكل غير معتاد، هبت عبر شوارع سيلفاريوم الضيقة وكأنها تهمس بأسرار قديمة منسية. تحت السماء المظلمة التي يهيمن عليها القمر الدموي، بدت الأبراج المتصدعة والأبنية البالية وكأنها هياكل عظمية عملاقة، شاهدة على عصر مضى، تركت لتنهار ببطء تحت وطأة الزمن.

أومأت كلارا برأسها ببطء: “نعم، وأعتقد أنها ليست الوحيدة. تذكّر تلك الجثة التي اكتشفناها، اليعسوب العملاق الذي له أطراف شبيهة بأيدي البشر؟ نحن الآن نعتقد أنها ليست كيانًا منفردًا، بل جزء من سلسلة من الشذوذات.”

 

 

صافرات الإنذار المعتادة قطعت السكون، صاخبة مثل نداءات موت معلنة. انطلقت كتيبة الملك في الأرجاء، خطواتهم كانت إيقاعاً ثقيلاً يخترق الشوارع المظلمة والمبللة بالأمطار المتجمعة في برك صغيرة بين الحجارة العتيقة. كانت الأرض تحتهم ملساء من الرطوبة، تلمع تحت ضوء مصابيح الغاز المهتز بفعل الرياح، تلك المصابيح التي تلقي بظلال مشوهة وطويلة على الجدران المنهارة. أما الشوارع، فقد خلت من سكانها كما لو أن المدينة لفظتهم إلى جحورها، ليختبئوا من الليل ووحوشه.

 

 

إيفان لم يكن مستعدًا للاعتراف بضعفه، لكن هذا ما كان يشعر به بوضوح. جسده كان مستنزفًا، وروحه ثقيلة. 

لكن تلك الليلة، شيء ما كان مختلفًا. 

 

 

 

انفصل قسم من الكتيبة، يقوده الملازم إيفان ديمونت، رجلاً ذا ملامح صارمة لا تعكس إلا شبح التعبير. كان يرتدي معطفًا ثقيلًا داكن اللون، يرفرف مع كل حركة وكأنه يمتزج مع الليل. رأسه مغطى بقبعة سوداء متينة، ذات حواف عريضة تقيه الأمطار المتساقطة بخفة، تاركة قطرات تتجمع ثم تنزلق على طول المعطف لتتلاشى في الشوارع القاتمة. معه تسير كتيبته، جنود مدججون بالسلاح، يتنقلون بين الأزقة وكأنهم أشباح في ظلمة الليل، أسلحتهم الباردة تلمع في الظلام، يلتف حولهم ضوء المصابيح الغازية الشاحبة.

 

 

الطرق كانت ضيقة، الجدران المتهالكة على جانبي الشارع تتكدس فوق بعضها البعض، تشقها نوافذ صغيرة ذات إطارات خشبية باهتة، تغطيها الستائر الثقيلة التي لا تُفتح أبدًا. الواجهات كانت قديمة، يغلب عليها اللون الداكن بفعل الغبار الذي تراكم على مر العقود. الأبواب العتيقة المصنوعة من خشب البلوط تزينها زخارف معقدة، لكنها فقدت بريقها منذ زمن طويل، محفورة بأثر الزمن والرطوبة. كان بوسع أي مارة أن يشعروا بأن هذه الأبنية قد شهدت أكثر مما تتحمله.

 

 

 

“هناك شيء غير طبيعي هنا…” همس أحد الجنود بصوت منخفض، عينيه تحدقان في الأزقة الفارغة المحيطة بهم. لم يكن هناك أي حركة، كأن المدينة نفسها توقفت عن التنفس.

ضيق إيفان عينيه وسأل: “هل تعتقدين أنه من طائفة الطلسم الفاني؟”

 

 

إيفان لم يرد، لكنه شعر بنفس الانزعاج. عادةً ما كانت هذه الشوارع تعج بالناس قبل غروب الشمس، لكن الآن، كان الصمت هو الحاكم. الرياح، رغم قسوتها، لم تُصدر سوى صوت خافت وهي تعبث بأطراف المعاطف الثقيلة، مما زاد من وطأة الترقب في قلوبهم. الليل كان مختلفًا هذه المرة، وكانت الكتيبة تشعر بهذا.

ألفريد، بملامحه الجامدة التي لا تكاد تتغير، أومأ برأسه بإشارة موافقة. ثم استدار وأشار بيده إلى اثنين من الجنود: ثيودور هارتنيل وإليزابيث ويلكوكس. كان ثيودور، بفكه المحدد وعيونه الجليدية، صورة للثبات الذي قد يثير التوتر لدى من حوله. أما إليزابيث، فكان شعرها الأحمر المتلألئ تحت ضوء الشمس المتسلل من خلال الغيوم الداكنة، وكأنه شعلة في الظلام. كانت ترتدي سلسلة متدلية حول عنقها، تمائمها المعدنية تتراقص بخفة مع كل حركة.

 

 

بينما كانوا يقتربون من هدفهم، بدأت البيوت التي مروا بها تأخذ طابعًا غريبًا. الجدران القديمة بدت وكأنها تتنفس ببطء، تتشقق وتتمدد تحت ثقل الظلال الداكنة. النوافذ المتربة كانت أشبه بأعين ميتة تحدق في الفراغ، لا تنبض بالحياة بل بالصمت. الشارع، الذي بدا وكأنه يمتد بلا نهاية، كان ضيقًا بشكل لا يبعث على الراحة، وكأن الجدران تقترب من بعضها البعض لتحاصرهم.

تقدم إيفان نحو المذبح ببطء، كان بإمكانه أن يشعر بالقوة الغريبة المنبعثة منه. ركع أمامه، وتأمل في تفاصيله الدقيقة: العظام المتشابكة، الأوتار المتداخلة، والجلد الذي كان يغطي أجزاء منه. بدا المذبح وكأنه مخلوق حي، لكنه متجمد في لحظة معينة من الزمن. “ماريا، هل هذا الشيء نشط؟”

 

الليلة لم تكن كسابقاتها. الرياح، باردة بشكل غير معتاد، هبت عبر شوارع سيلفاريوم الضيقة وكأنها تهمس بأسرار قديمة منسية. تحت السماء المظلمة التي يهيمن عليها القمر الدموي، بدت الأبراج المتصدعة والأبنية البالية وكأنها هياكل عظمية عملاقة، شاهدة على عصر مضى، تركت لتنهار ببطء تحت وطأة الزمن.

وفي نهاية هذا الممر المتعرج، ظهر أمامهم المنزل. كان بناءً ضخماً، يظهر ككائن مهيب في وسط الظلام. واجهته الأمامية كانت تزينها أعمدة حجرية شاهقة، متآكلة بفعل الزمن، تقف متباعدة وكأنها أسنان متكسرة. على جانبي الباب الكبير، كانت الأبواب محاطة بزخارف حديدية ملتوية، كما لو أنها تحاول الإمساك بأي شخص يجرؤ على الاقتراب. الجدران العالية مغطاة بطبقة من النباتات المتسلقة، أوراقها تلتف حول الطوب القديم مثل أصابع ميتة تبحث عن حياة لم تعد موجودة.

نهض فريدريك بصعوبة، معتمدًا على مشايته ليقف. سار بخطوات ثقيلة نحو الباب، لكن أحد الحراس المسلحين أوقفه عند العتبة. نظر فريدريك للحارس، ثم أعطى إيفان نظرة مملوءة بالتعب. 

 

 

النوافذ، الكبيرة والمستديرة في أعلاها، كانت مغلقة تمامًا، لا أثر لأي ضوء يتسرب منها. ستائر داكنة، ثقيلة مثل ظلال الليل نفسه، تخفي ما بداخلها. بدا المنزل وكأنه كائن حي يختبئ وراء هذه الستائر، يراقب بصمت كل من يقترب.

ظلت كلارا صامتة لبرهة، تجلس منتصبة، ويديها متشابكتين على حجرها. عيناها كانت تحدق في الفراغ كما لو كانت تراجع ذكريات مؤلمة، قبل أن تتنفس ببطء وتبدأ الحديث: “أردت مناقشة ذلك بعد أن تقرأ الملفات، لكن لا بأس. لدي شعور قوي بأن الجثة التي وجدناها تحت مدينة فالدروك لم تكن حالة فريدة من نوعها. لدينا المزيد من الأدلة.”

 

ألفريد، بملامحه الجامدة التي لا تكاد تتغير، أومأ برأسه بإشارة موافقة. ثم استدار وأشار بيده إلى اثنين من الجنود: ثيودور هارتنيل وإليزابيث ويلكوكس. كان ثيودور، بفكه المحدد وعيونه الجليدية، صورة للثبات الذي قد يثير التوتر لدى من حوله. أما إليزابيث، فكان شعرها الأحمر المتلألئ تحت ضوء الشمس المتسلل من خلال الغيوم الداكنة، وكأنه شعلة في الظلام. كانت ترتدي سلسلة متدلية حول عنقها، تمائمها المعدنية تتراقص بخفة مع كل حركة.

توقف الجنود عند هذا المنزل، تتسلل الرهبة إلى قلوبهم. إيفان، بوجهه الصارم وعينيه اللتين تحملان بريق العزيمة، تقدم خطوة للأمام، وقف أمام الباب الثقيل، الهواء حوله يتثاقل، وكأنهم يقفون على حافة عالم آخر، عالم غارق في الظلام والمجهول.

 

إيفان عبس للحظة، ثم سأل بنبرة مستغربة: “لماذا تحمل الملفات هذه العلامة الموحدة؟ ألا يبدو هذا غير عادي بعض الشيء؟”

“لقد وصلنا…” قال إيفان بصوت خافت، عيناه تتفحصان الأبواب العتيقة، والمجهول الذي ينتظر خلفها.

وفجأة، تحول العالم من حوله. لم يعد في المبنى، ولم يعد يسمع أصوات الجنود أو يشعر بالهواء الرطب. كان في مكان آخر، مظلم تمامًا. شعر وكأنه يسقط من مكان مرتفع، لكن لم يكن هناك أرض تحت قدميه. كانت السماء مليئة بالضباب، والأفق يتلاشى في العدم. أصابته دوامة من الدوار، وعيناه تحاولان التكيف مع الظلام المتزايد.

 

رد إيفان بلهجة رسمية وهو ينظر في عينيها، محاولاً ألا يُظهر الكثير من الشفقة: “لدي خطة جاهزة للتنفيذ، لكنني بحاجة إلى الموافقة أولاً. بعد الحصول على تلك الموافقة، سأبدأ التنفيذ.”

 

 

 

 

استدار إيفان، شعوره بالقلق يتزايد. “هل تتحدثين عن احتمال وجود المزيد من هذه البزاقات العملاقة؟”

 

 

 

زارته إليزابيث مرارًا منذ استيقاظه، وملامح وجهها مغطاة بالأسى والندم، تعتذر عن عدم قدرتها على إدراك ما حدث له في الوقت المناسب. 

إستيقظ إيفان ديمونت على شعوره بالألم في كل جزء من جسده. استلقى على فراشه الصلب في غرفة خافتة الإضاءة داخل مستشفى عسكري قديم، حيث الجدران المصفرة بالبقع تبدو شاهدة على مرور الزمن والتآكل. الستائر المفتوحة قليلاً سمحت بدخول ضوء شمس بعد الظهيرة الباهت، مما أعطى الغرفة طابعًا كئيبًا. بلاط الأرضية الأبيض الذي انطفأ بريقه بمرور الزمن بدا باردًا تحت قدميه. بجانب سريره، كان هناك طاولة صغيرة عليها بعض الزهور، أرسلها له قائده العسكري في محاولة باردة لتعزيته.

“كل شخص يتفاعل مع الصدمات بطرق مختلفة، ما تمر به من ألم نفسي قد يترجم إلى شعور جسدي.” حاول الدكتور أن يفسر بحذر.

 

إيفان كان قد فقد سبعة أشهر من حياته، غارقًا في غيبوبة طبية طويلة. في البداية، حاول الأطباء إيقاف التخدير بعد فترة من العلاج، لكن جسده لم يستجب. لقد استيقظ أخيرًا، ليس على صوت الحياة، بل على أصوات الأطباء والممرضات وهم يحيطون به، يسألون عن حاله. لكنه لم يكن قادرًا على فعل شيء سوى الصراخ.

 

 

 

ظهر الدكتور أندرسون عند مدخل الغرفة، بنظرة مختلطة بين الاحترافية والقلق. كان رجلاً في منتصف العمر، شعره الرمادي المتناثر يعكس سنواته الطويلة في مهنته. ارتدى معطفه الأبيض الذي بدا أطول من المعتاد، وتحرك بخطوات مدروسة نحو إيفان. 

.

 

بينما كان يغرق في أفكاره المظلمة، قاطعه صوت ناعم لكنه مهيب، بلكنة سلافية ثقيلة، “أنت تبدو أفضل حالاً، يا إيفان.” جاء الصوت من مدخل الغرفة، متبوعًا بخطوات خفيفة لكنها واثقة تملأ الفراغ.

“كيف تشعر هذا الصباح، ديمونت؟” سأل الدكتور بنبرة هادئة، محاولًا إخفاء قلقه المتزايد.

“في البداية، كانت تصرفاتهم غريزية، مثل حيوانات جائعة. لكن عندما تراجعنا إلى موقع آثار القرص الدائري، بدأت تلك المخلوقات تتصرف وكأنها تتبع خطة. محاصرتنا، اختيار اللحظات المناسبة للهجوم. كان هناك شيء خلف كل هذا.”

 

 

“لم أنم منذ استيقاظي… الألم لا يفارقني.” أجاب إيفان بصوت متحجر، تعبيرات وجهه تعكس الألم الداخلي الذي يعيشه.

انفصل قسم من الكتيبة، يقوده الملازم إيفان ديمونت، رجلاً ذا ملامح صارمة لا تعكس إلا شبح التعبير. كان يرتدي معطفًا ثقيلًا داكن اللون، يرفرف مع كل حركة وكأنه يمتزج مع الليل. رأسه مغطى بقبعة سوداء متينة، ذات حواف عريضة تقيه الأمطار المتساقطة بخفة، تاركة قطرات تتجمع ثم تنزلق على طول المعطف لتتلاشى في الشوارع القاتمة. معه تسير كتيبته، جنود مدججون بالسلاح، يتنقلون بين الأزقة وكأنهم أشباح في ظلمة الليل، أسلحتهم الباردة تلمع في الظلام، يلتف حولهم ضوء المصابيح الغازية الشاحبة.

 

تنهدت كلارا ببطء، وأخذت لحظة لتجميع أفكارها قبل أن ترد: “هناك طائفة صغيرة تعمل على تعديل البشر بطرق غامضة لا نفهمها بعد، ويقودها شخص يُدعى السيد ليل . هذا الرجل تواصل مع كيان على الأقل مشابه لذلك الذي واجهناه أثناء التحقيق في ‘الكيان الممزق’.”

ابتسم الدكتور بحذر وهو يقلب صفحات التقرير بين يديه. “حسنًا، لقد حصلت على نتائج تخطيط كهربية عضلاتك، وأعتقد أن الأمر قد يثير اهتمامك.”

 

 

إنهم لا يفهمون. لن يفهموا أبدًا.

“وما الذي تقوله هذه النتائج؟” سأل إيفان، وهو يعرف مسبقًا أن الإجابة لن تكون مريحة.

 

 

توقف الزمن للحظة، وكأن الغرفة بأكملها كانت تنتظر إجابتها. هزت كتفيها بتردد، وقالت: “لا أعلم.”

“النتائج… طبيعية تمامًا. لا توجد مشاكل عضوية.” 

رمقه فريدريك بنظرة مستقيمة وحادة، وكأنه يتفحصه بدقة أكبر مما هو ظاهر. “أفضل بكثير من الأيام التي قضيتها بين أنقاض ذالك المكان.”

 

“نعم، هذا صحيح. لكنه قد يعرف شيئًا.”

“طبيعية؟ كيف يكون ذلك؟” قبضت يدا إيفان على الأغطية بتوتر.

 

 

 

“بعد غيبوبة طويلة كهذه، من المتوقع أن تفقد كتلة عضلية نتيجة الضمور. لكن ما حدث معك غير مألوف، جسدك لم يتأثر.”

 

 

 

أصوات خطوات الأطباء في الممر البعيد كانت تكاد تُسمع، لكن إيفان لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. ما سمعه للتو كان يُرسخ إحساسه بأن شيئًا خاطئًا يحدث داخله.

“أنا لا أقول أنني لم أتحسن. لكنني لم أعد كما كنت. هذا الشيء أفسدني.”

 

 

“إذن لماذا الألم لا يتركني؟” سأل إيفان، صوته يمزج بين الاستفهام والغضب المكبوت.

“لم أنم منذ استيقاظي… الألم لا يفارقني.” أجاب إيفان بصوت متحجر، تعبيرات وجهه تعكس الألم الداخلي الذي يعيشه.

 

 

“كل شخص يتفاعل مع الصدمات بطرق مختلفة، ما تمر به من ألم نفسي قد يترجم إلى شعور جسدي.” حاول الدكتور أن يفسر بحذر.

إيفان عبس للحظة، ثم سأل بنبرة مستغربة: “لماذا تحمل الملفات هذه العلامة الموحدة؟ ألا يبدو هذا غير عادي بعض الشيء؟”

 

“ربما، لكن هذا غير واضح تمامًا. ما هو واضح هو أن الوضع أكبر مما يمكن لكتيبتنا التعامل معه بمفرده. نحن بحاجة إلى توسيع فرق البحث، وإلى إطلاق برنامج جديد يركز على اكتشاف الشذوذ، وربما استخدام تقنيات خارج نطاق قدرتنا . لأنني إذا كنت على حق، فإن السيد ليل ورعاته لم يقتربوا حتى من إنهاء تدخلهم في عالمنا.”

لكن إيفان لم يكن راضيًا. تلك الكلمات لم تكن تشفيه، بل زادت من شعوره بالغموض الذي يلتف حوله. لقد رأى أشياء لا يمكن نسيانها، عايش أحداثًا تخترق أعماق الوعي، لكنها لم تكن مجرد “صدمة” كما يقولون.

 

 

في قلبه، كانت مشاعر الندم والتساؤل تتصارع. كان يعلم أنه لا يمكن لوم إليزابيث بالكامل، فحتى لو كانت قريبة منه، فإن الغموض الذي أحاط بالكيان كان أكبر من أي تفسير بسيط. فريدريك الذي كان يعتبره مصدرًا للمعرفة، كان قد غمره في ضباب من الغموض، ويبدو أن كل التفاصيل كانت مفقودة في تفاصيل هذا الكيان القاسي. “كيف كان يمكنني أن أعلم أن هذا الكيان كان يتواجد في كل شيء من حولنا؟” تساءل بمرارة، وهو يحاول التقاط شظايا الذاكرة الضبابية والغامضة التي تجمعت في عقله. 

“هل قرأت ملفي؟ ملف 7523؟” سأله إيفان بنبرة تملؤها الشك.

 

 

 

“بالطبع، لقد حصلت على الإذن اللازم لمعرفة التفاصيل عندما بدأنا علاجك.” قال الدكتور بنبرة محترمة.

رفعت كلارا حاجبًا رفيعًا، ثم نقرت بخفة على الملفات التي تحملها. “حدثت بعض التطورات أثناء فترة نقاهتك، إيفان. تطورات تتعلق بما حدث في ‘الضباب المكسور’. وأحتاج منك أن تكون مستعدًا.”

 

ابتعد إيفان ديمونت عن فرقة العمليات وأخرج جهاز التسجيل الخاص به. كان الهواء مفعمًا برائحة الرطوبة والعفن، بينما كانت جدران المباني المتآكلة ترتفع من حوله، شاهدةً على عصر مضى. كل خطوة كان يخطوها بين الأنقاض تعزف نغمة خافتة من التدهور والخراب. قال بصوت هادئ مبحوح من التأمل: “تبدو هذه المباني وكأنها شهدت مئات السنين من التآكل. استنادًا إلى السجلات التي وجدتها في أنقاض موقع الآثار، أظن أن هذه المباني قديمة لدرجة أنها تحكي قصصًا نسيناها منذ زمن بعيد. ورغم أن تصميمها يبدو غريبًا عن أي شيء في حضارتنا، إلا أن البناء صلب، كأنه تحدى الزمن.”

“إذن يجب أن تعرف أن ما مررت به لم يكن مجرد صدمة بسيطة.”

 

 

 

“أعلم أنك أنت وفريق العمليات الخاصة كنتم جزءًا من عملية معقدة، لكن ما حدث يُفسر بالعلم. ذهبت إلى مكان بعيد… واقع غريب، تعرضت لأمور تفوق الإدراك.” قال الدكتور محاولًا إظهار فهمه للوضع، لكنه لم يكن يدرك حجم الفوضى التي عايشها إيفان.

تقدمت إليزابيث بخطوة وقالت: “ألم يكن في موقع الآثار  عندما اختفى؟”

 

 

“مع كل احترامي لك، هذا مجرد هراء علمي!” صرخ إيفان فجأة، غاضبًا من تلك التفسيرات الباردة. “ما رأيته لم يكن مجرد هلوسة. هناك شيء في هذا العالم يريد أن يبتلع كل شيء. إنه ضخم، غريب… ويسيطر على كل ذرة حوله.”

بينما كانوا يقتربون من هدفهم، بدأت البيوت التي مروا بها تأخذ طابعًا غريبًا. الجدران القديمة بدت وكأنها تتنفس ببطء، تتشقق وتتمدد تحت ثقل الظلال الداكنة. النوافذ المتربة كانت أشبه بأعين ميتة تحدق في الفراغ، لا تنبض بالحياة بل بالصمت. الشارع، الذي بدا وكأنه يمتد بلا نهاية، كان ضيقًا بشكل لا يبعث على الراحة، وكأن الجدران تقترب من بعضها البعض لتحاصرهم.

 

 

“أفهم ذلك، لكن الاختبارات التي أجريناها عليك تشير إلى أنك في حالة جيدة.” قال الدكتور بحذر، محاولًا تهدئة الوضع.

أصوات خطوات الأطباء في الممر البعيد كانت تكاد تُسمع، لكن إيفان لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. ما سمعه للتو كان يُرسخ إحساسه بأن شيئًا خاطئًا يحدث داخله.

 

“لهذا السبب أطلب منك أن تستمر في الراحة وممارسة التمارين. العقل والجسد يحتاجان للوقت.” 

“لا يهمني ما تقوله النتائج! لقد حاول هذا الشيء أكلي من الداخل إلى الخارج. لقد حول الناس إلى وحوش مفترسة، وحاول أن يفعل نفس الشيء معي.”

 

 

 

ابتسم الدكتور قليلاً وهو يقترب من إيفان. “أنت أفضل بكثير الآن. لقد تحسنت حالتك مقارنة بالأيام الأولى عندما كنت تهاجم الجميع وتصرخ على الطاقم الطبي.”

“طبيعية؟ كيف يكون ذلك؟” قبضت يدا إيفان على الأغطية بتوتر.

 

حدّق إيفان في الملفات أمامه، وبدأت الأفكار تتداخل في ذهنه.

صمت إيفان لوهلة، مستذكرًا تلك الأيام الأولى. لم يكن هو نفسه، لم يكن يعرف حتى من يكون حينها. كان مجرد مزيج من الغضب والخوف. 

“كيف تشعر هذا الصباح، ديمونت؟” سأل الدكتور بنبرة هادئة، محاولًا إخفاء قلقه المتزايد.

 

شعر إيفان بالغضب يشتعل بداخله. “لماذا أعادوه إلى هناك؟  ذالك المكان عبارة عن جحيم حي. 

“أنا لا أقول أنني لم أتحسن. لكنني لم أعد كما كنت. هذا الشيء أفسدني.”

 

 

 

“لهذا السبب أطلب منك أن تستمر في الراحة وممارسة التمارين. العقل والجسد يحتاجان للوقت.” 

“ربما عليّ أن أتحدث إلى فريدريك.”كان هذا التفكير يراوده باستمرار. “لم أكن أعلم حينها أنه قضى أكثر من عشرين عامًا في مراقبة ذلك الكيان اللقيط الذي يتغذى على الضباب.”

 

 

“بخير…” قال إيفان متثاقلاً، وهو يعلم أن الأمر لن ينتهي بهذه السهولة.

 

 

.

نهض الدكتور مغادرًا الغرفة بهدوء، لكنه لم يدرك أن إيفان لم يكن يستمع. لقد كان يغوص في أفكاره. 

 

 

بعد 6 أشهر

إنهم لا يفهمون. لن يفهموا أبدًا.

 

 

 

 

على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”

 

“نعم، هذا صحيح. لكنه قد يعرف شيئًا.”

كان الجو ثقيلاً في صباح فبراير، حين تسلل ضوء الشمس الخافت عبر النوافذ العالية، ليضفي على الغرفة جوًا من التوتر الذي لم يتبدد برغم دفء النهار.

 

 

“لم أنم منذ استيقاظي… الألم لا يفارقني.” أجاب إيفان بصوت متحجر، تعبيرات وجهه تعكس الألم الداخلي الذي يعيشه.

 

صافرات الإنذار المعتادة قطعت السكون، صاخبة مثل نداءات موت معلنة. انطلقت كتيبة الملك في الأرجاء، خطواتهم كانت إيقاعاً ثقيلاً يخترق الشوارع المظلمة والمبللة بالأمطار المتجمعة في برك صغيرة بين الحجارة العتيقة. كانت الأرض تحتهم ملساء من الرطوبة، تلمع تحت ضوء مصابيح الغاز المهتز بفعل الرياح، تلك المصابيح التي تلقي بظلال مشوهة وطويلة على الجدران المنهارة. أما الشوارع، فقد خلت من سكانها كما لو أن المدينة لفظتهم إلى جحورها، ليختبئوا من الليل ووحوشه.

جلس إيفان بهدوء أمام الطاولة المعدنية، متأملًا الكيان الجالس مقابله. من الواضح أنه كان إنسانًا في وقتٍ ما، لكن تحوّله إلى ما هو عليه الآن جعله أقرب إلى كابوس حي. فريدريك، الذي صار يعرف الآن بـالمسخ المسكون، بدا كأنه تجسيد لعالم آخر، بشرة مشوهة تمتزج فيها الألوان بين الأحمر والرمادي بطريقة غير متجانسة، وكأنها خرائط معقدة على سطح جسمه الهزيل. كان فريدريك طويل القامة، أطول مما كان يتوقعه أي شخص، لكن هزاله الشديد جعل وزنه لا يتجاوز 130 كيلوجرامًا. ومع ذلك، ورغم هذا الجسد الضعيف، كان قد شاهد بالأمس كيف خدش فريدريك سطح الطاولة المعدنية الصلبة بكفه العاري، وكأن القوة الحقيقية تختبئ تحت مظهره الهش. بجوار مقعده، وقفت مشاية ذات أربع عجلات، علامة على هشاشة جسده الجسدي، لكنها لم تكن كافية لإخفاء الخطر الكامن داخله.

 

 

صمت فريدريك للحظة، ثم رفع رأسه ببطء، وكأنه يعيد شريط الذكريات المؤلمة في ذهنه. “حاولت أن أتجاهل الأمر، لكن الحقيقة كانت أكبر مما أستطيع تحملها.”

“صباح الخير،” قال فريدريك بصوت مبحوح، تردد في نبرته لكنه لم يخلُ من شيء يشبه السخرية.

انفصل قسم من الكتيبة، يقوده الملازم إيفان ديمونت، رجلاً ذا ملامح صارمة لا تعكس إلا شبح التعبير. كان يرتدي معطفًا ثقيلًا داكن اللون، يرفرف مع كل حركة وكأنه يمتزج مع الليل. رأسه مغطى بقبعة سوداء متينة، ذات حواف عريضة تقيه الأمطار المتساقطة بخفة، تاركة قطرات تتجمع ثم تنزلق على طول المعطف لتتلاشى في الشوارع القاتمة. معه تسير كتيبته، جنود مدججون بالسلاح، يتنقلون بين الأزقة وكأنهم أشباح في ظلمة الليل، أسلحتهم الباردة تلمع في الظلام، يلتف حولهم ضوء المصابيح الغازية الشاحبة.

 

 

“صباح الخير، فريدريك،” رد إيفان بحذر، مدركًا أن هذه الجلسة ستكون أصعب مما توقع. “هل نمت جيدًا؟ هل كانت غرفتك مريحة بما فيه الكفاية؟”

إنهم لا يفهمون. لن يفهموا أبدًا.

 

 

رمقه فريدريك بنظرة مستقيمة وحادة، وكأنه يتفحصه بدقة أكبر مما هو ظاهر. “أفضل بكثير من الأيام التي قضيتها بين أنقاض ذالك المكان.”

رد إيفان بلهجة رسمية وهو ينظر في عينيها، محاولاً ألا يُظهر الكثير من الشفقة: “لدي خطة جاهزة للتنفيذ، لكنني بحاجة إلى الموافقة أولاً. بعد الحصول على تلك الموافقة، سأبدأ التنفيذ.”

 

 

“أجل، لا مقارنة بين غرفة بسرير حقيقي وبين مرتبة بالية في زاوية مظلمة.” حاول إيفان تخفيف حدة التوتر بكلمات بسيطة، لكن تأثيرها كان ضئيلًا على فريدريك، الذي بدا وكأنه غير معني بالحديث عن مثل هذه التفاصيل الصغيرة.

 

 

 

“ما الذي تريد مناقشته اليوم، أيها العميل؟” سأله فريدريك ببرود، نبرته تقطع أي محاولة لتخفيف الجو.

 

 

 

أخذ إيفان نفسًا عميقًا، يعلم أن هذه الجلسة لن تكون عادية. “بالأمس تحدثنا عن الهجمات التي أدت إلى وفاة أفراد فريقنا. نحن بحاجة إلى فهم ما حدث هناك بشكل أوضح، فريدريك.”

نظر إيفان مجددًا إلى المذبح، وكأن هناك شيئًا غامضًا يجذبه نحو هذا الشيء. “لدينا كاهن كارسيست في القصر الشمالي. ربما يجب أن أطرح عليه بعض الأسئلة حول هذا.”

 

 

وضع فريدريك رأسه بين يديه، محنيًا جسده النحيل فوق الطاولة، مرفقيه يرتكزان على سطحها البارد. بدا أن التفكير في الأحداث يعيد له ذكريات ثقيلة. “المخلوقات لم تكن كما بدت في البداية… لقد تغيرت. عندما واجهناها أول مرة، هاجمت بوحشية، بلا نظام. لكنها لاحقًا… بدت وكأنها تعمل بتنسيق.”

 

 

 

رفع إيفان حاجبيه قليلًا، مستشعرًا أن الحديث يتخذ منحى أكثر تعقيدًا. “تنسيق؟ ماذا تقصد؟”

 

 

 

“في البداية، كانت تصرفاتهم غريزية، مثل حيوانات جائعة. لكن عندما تراجعنا إلى موقع آثار القرص الدائري، بدأت تلك المخلوقات تتصرف وكأنها تتبع خطة. محاصرتنا، اختيار اللحظات المناسبة للهجوم. كان هناك شيء خلف كل هذا.”

“أجل، لا مقارنة بين غرفة بسرير حقيقي وبين مرتبة بالية في زاوية مظلمة.” حاول إيفان تخفيف حدة التوتر بكلمات بسيطة، لكن تأثيرها كان ضئيلًا على فريدريك، الذي بدا وكأنه غير معني بالحديث عن مثل هذه التفاصيل الصغيرة.

 

أخذ إيفان نفسًا عميقًا، ثم قال: “احذري مني.” مد يده بحذر، ولَمَس المذبح بأطراف أصابعه. كان البرد يسري في جسده وكأنه يتغلغل إلى عظامه.

“هل تتحدث عن نوع من التخاطر؟” سأله إيفان، محاولًا أن يجد تفسيرًا منطقيًا لهذا التنسيق الغريب.

 

 

نظر إيفان إلى المذبح بعينين متسعتين: “ما هذا السحر؟”

فرد فريدريك ظهره قليلاً، نظرته أصبحت أكثر عمقًا وعيونه مملوءة بشيء من الظلال. “لا، لم يكن تخاطرًا. لو كان كذلك، لشعرت به. كان الأمر أشبه بشيء أعظم منهم جميعًا يتحكم فيهم من الخلف ولهذا السبب أحتاج إلى العودة إلى هناك.”

نظرت إليه بتعاطف غريب، وملامحها شاحبة من التفكير. “ماذا تقصد؟”

 

ابتسمت كلارا برفق، لكن البرود لم يختفِ من صوتها: “بعد مراجعة كل الملفات، قمت بإعادة تصنيفها للإشارة إلى ارتباطها. لا أخطط لفعل ذلك دائمًا، لكن هذه الشذوذات الثلاثة متصلة بطريقة تتجاوز الأحداث الفردية.”

أخذ إيفان لحظة للتفكير، محاولًا أن يستوعب ما يسمعه. “كيان يتحكم بهم؟ ولمَ لم تخبرني عن هذا من قبل؟ ما علاقتك بهذا الكيان؟”

“لا يوجد عودة إلى الوراء في هذه المرحلة؛ كل ما أحتاجه منك هو اللحاق بالتفاصيل. ‘لغز الضباب المكسور’ هو تحقيق بدأته كتيبة الفرسان التاسعة بشأن طائفة يبدو أن لها صلات بما يُعرف بـ ‘الكيان الممزق’. أما ملف طائفة الظلال’ فهو تحقيق لم تكن جزءًا منه، لكنه يرتبط بالأحداث التي واجهتها أثناء تحقيقنا في الشذوذ.”

 

أخذ إيفان لحظة للتفكير، محاولًا أن يستوعب ما يسمعه. “كيان يتحكم بهم؟ ولمَ لم تخبرني عن هذا من قبل؟ ما علاقتك بهذا الكيان؟”

صمت فريدريك للحظة، ثم رفع رأسه ببطء، وكأنه يعيد شريط الذكريات المؤلمة في ذهنه. “حاولت أن أتجاهل الأمر، لكن الحقيقة كانت أكبر مما أستطيع تحملها.”

 

 

 

شعر إيفان بأن هناك ما هو أكثر مما قيل حتى الآن، فقرر أن يسلك طريقًا آخر في الحوار. “إذن، فلنتحدث عما حدث في النهاية. ما الذي جرى بالتحديد؟”

ثم أكملت كلارا كلامها بنبرة هادئة لكنها جادة: “تم رفع التقرير إلى الوزير السابع، وقد تم طلب التعاون مع المكتبة.”

 

أخذ فريدريك نفسًا عميقًا، ورأى إيفان أن قبضتيه كانتا ترتجفان بشكل طفيف. “لقد ماتوا جميعًا، كلهم… المخلوقات اقتحمت المكان، ومزقتهم إربًا. لم يكن بوسعي فعل شيء، سوى المشاهدة.”

ظلت كلارا صامتة لبرهة، تجلس منتصبة، ويديها متشابكتين على حجرها. عيناها كانت تحدق في الفراغ كما لو كانت تراجع ذكريات مؤلمة، قبل أن تتنفس ببطء وتبدأ الحديث: “أردت مناقشة ذلك بعد أن تقرأ الملفات، لكن لا بأس. لدي شعور قوي بأن الجثة التي وجدناها تحت مدينة فالدروك لم تكن حالة فريدة من نوعها. لدينا المزيد من الأدلة.”

 

“لكنك نجوت، أليس كذلك؟” سأل إيفان بنبرة حذرة.

 

 

 

انحنى فريدريك ببطء، وضعية جسده أصبحت مثقلة بالندم. “لأنني اتصلت به… الكيان الذي كان يسيطر عليهم.”

“ليس تمامًا، لكنه جزء من الأمر. تم نقله مرة أخرى إلى ‘الظلال المحجوبة’، وأغلقنا البوابة خلفه. قال إن وجوده هناك هو الشيء الوحيد الذي يمنع الكيان من العودة إلى عالمنا.”

 

في قلبه، كانت مشاعر الندم والتساؤل تتصارع. كان يعلم أنه لا يمكن لوم إليزابيث بالكامل، فحتى لو كانت قريبة منه، فإن الغموض الذي أحاط بالكيان كان أكبر من أي تفسير بسيط. فريدريك الذي كان يعتبره مصدرًا للمعرفة، كان قد غمره في ضباب من الغموض، ويبدو أن كل التفاصيل كانت مفقودة في تفاصيل هذا الكيان القاسي. “كيف كان يمكنني أن أعلم أن هذا الكيان كان يتواجد في كل شيء من حولنا؟” تساءل بمرارة، وهو يحاول التقاط شظايا الذاكرة الضبابية والغامضة التي تجمعت في عقله. 

شعر إيفان بزيادة في دقات قلبه، إدراكه بأن هناك شيئًا أكبر يلوح في الأفق. “كيان؟ من هو هذا الكيان؟”

عندما استيقظ، كان العالم من حوله يبدو غريبًا، كأنما ينظر إلى واقعه من وراء زجاج مغبش.

 

 

نهض فريدريك بصعوبة، معتمدًا على مشايته ليقف. سار بخطوات ثقيلة نحو الباب، لكن أحد الحراس المسلحين أوقفه عند العتبة. نظر فريدريك للحارس، ثم أعطى إيفان نظرة مملوءة بالتعب. 

 

 

على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”

 

 

 

 

 

“النتائج… طبيعية تمامًا. لا توجد مشاكل عضوية.” 

 

 

بعد 6 أشهر

انحنى فريدريك ببطء، وضعية جسده أصبحت مثقلة بالندم. “لأنني اتصلت به… الكيان الذي كان يسيطر عليهم.”

نهض فريدريك بصعوبة، معتمدًا على مشايته ليقف. سار بخطوات ثقيلة نحو الباب، لكن أحد الحراس المسلحين أوقفه عند العتبة. نظر فريدريك للحارس، ثم أعطى إيفان نظرة مملوءة بالتعب. 

 

.

إستيقظ إيفان ديمونت على شعوره بالألم في كل جزء من جسده. استلقى على فراشه الصلب في غرفة خافتة الإضاءة داخل مستشفى عسكري قديم، حيث الجدران المصفرة بالبقع تبدو شاهدة على مرور الزمن والتآكل. الستائر المفتوحة قليلاً سمحت بدخول ضوء شمس بعد الظهيرة الباهت، مما أعطى الغرفة طابعًا كئيبًا. بلاط الأرضية الأبيض الذي انطفأ بريقه بمرور الزمن بدا باردًا تحت قدميه. بجانب سريره، كان هناك طاولة صغيرة عليها بعض الزهور، أرسلها له قائده العسكري في محاولة باردة لتعزيته.

“النتائج… طبيعية تمامًا. لا توجد مشاكل عضوية.” 

 

“لهذا السبب أطلب منك أن تستمر في الراحة وممارسة التمارين. العقل والجسد يحتاجان للوقت.” 

ابتعد إيفان ديمونت عن فرقة العمليات وأخرج جهاز التسجيل الخاص به. كان الهواء مفعمًا برائحة الرطوبة والعفن، بينما كانت جدران المباني المتآكلة ترتفع من حوله، شاهدةً على عصر مضى. كل خطوة كان يخطوها بين الأنقاض تعزف نغمة خافتة من التدهور والخراب. قال بصوت هادئ مبحوح من التأمل: “تبدو هذه المباني وكأنها شهدت مئات السنين من التآكل. استنادًا إلى السجلات التي وجدتها في أنقاض موقع الآثار، أظن أن هذه المباني قديمة لدرجة أنها تحكي قصصًا نسيناها منذ زمن بعيد. ورغم أن تصميمها يبدو غريبًا عن أي شيء في حضارتنا، إلا أن البناء صلب، كأنه تحدى الزمن.”

 

 

 

على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”

 

 

زارته إليزابيث مرارًا منذ استيقاظه، وملامح وجهها مغطاة بالأسى والندم، تعتذر عن عدم قدرتها على إدراك ما حدث له في الوقت المناسب. 

وقف إيفان لحظة، ثم رفع يده بإشارة مطمئنة دون أن يلتفت، متمتمًا لنفسه: “هناك دائمًا أشياء نجهلها.” وضع إيفان يده على جهاز التسجيل مرة أخرى، عيناه تلتقطان بقايا الهياكل العظمية المتناثرة حوله كأشباح ماضية: “ثمة عظام هنا، ربما بقايا مئات… لا، آلاف الأشخاص. لكن أين الجثث؟ كيف يمكن لمدينة بهذا الحجم أن تختفي أجساد سكانها هكذا؟” توقف عن التسجيل، ثم رفع صوته لينادي على ألفريد: “ألفريد، أريد استكشاف أحد هذه المباني.”

 

 

في قلبه، كانت مشاعر الندم والتساؤل تتصارع. كان يعلم أنه لا يمكن لوم إليزابيث بالكامل، فحتى لو كانت قريبة منه، فإن الغموض الذي أحاط بالكيان كان أكبر من أي تفسير بسيط. فريدريك الذي كان يعتبره مصدرًا للمعرفة، كان قد غمره في ضباب من الغموض، ويبدو أن كل التفاصيل كانت مفقودة في تفاصيل هذا الكيان القاسي. “كيف كان يمكنني أن أعلم أن هذا الكيان كان يتواجد في كل شيء من حولنا؟” تساءل بمرارة، وهو يحاول التقاط شظايا الذاكرة الضبابية والغامضة التي تجمعت في عقله. 

ألفريد، بملامحه الجامدة التي لا تكاد تتغير، أومأ برأسه بإشارة موافقة. ثم استدار وأشار بيده إلى اثنين من الجنود: ثيودور هارتنيل وإليزابيث ويلكوكس. كان ثيودور، بفكه المحدد وعيونه الجليدية، صورة للثبات الذي قد يثير التوتر لدى من حوله. أما إليزابيث، فكان شعرها الأحمر المتلألئ تحت ضوء الشمس المتسلل من خلال الغيوم الداكنة، وكأنه شعلة في الظلام. كانت ترتدي سلسلة متدلية حول عنقها، تمائمها المعدنية تتراقص بخفة مع كل حركة.

 

 

 

نظرت إليزابيث إلى إيفان بعينيها الثاقبتين، وتحدثت بنبرة متماسكة: “السيد ديمونت، سنقوم أولاً بتأمين المكان. تأكد من عدم وجود أعداء أو تدابير سحرية مضادة قبل أن نسمح لك بالدخول.”

 

 

 

أومأ إيفان برأسه بخفة، وقد بدا وكأن عينيه تغوصان في ظلال المكان، تتأملان كل زاوية وكل حجر. وقف على مسافة وهو يراقب الجنود أثناء قيامهم بالتفتيش، وعقله ينشغل بالتفكير في الأسرار التي قد تكمن خلف هذه الجدران المتهالكة. بعد دقائق معدودة، سمع صوت إليزابيث يناديه من الداخل.

 

 

 

دخل المبنى بتروٍ، وبمجرد أن خطى إلى الداخل، انتشرت الرطوبة حوله مثل عباءة، وكأنها تحاول سحب حرارة جسده. كان الضوء ضعيفًا، وما تبقى منه كان يخترق النوافذ المتشققة بصعوبة، ليرسم أشكالًا مشوشة على الجدران المتداعية. وقفت إليزابيث بجوار مذبح مصنوع من العظام الملتوية، وكأن الأوتار قد التفت حولها لتصنع مشهدًا مروّعًا. الدماء عليه كانت لا تزال تلمع، وكأنها حديثة العهد.

 

 

وقف إيفان، جسده مشدود بالضغط، وقال: “لماذا أشعر أن هناك شيئًا آخر لم تخبريني به بعد؟”

تقدم إيفان بخطوات حذرة، وعيناه تتفحصان المذبح. “هل تم استخدامه مؤخرًا؟”

انحنى فريدريك ببطء، وضعية جسده أصبحت مثقلة بالندم. “لأنني اتصلت به… الكيان الذي كان يسيطر عليهم.”

 

.

هزت إليزابيث رأسها بخفة وهي تنظر إلى الغبار الذي يكسو المكان. “لا أعتقد ذلك. الغبار يغطي كل شيء هنا، حتى الأرضية. آثار أقدامنا هي الوحيدة الموجودة.”

 

 

رفع إيفان حاجبيه قليلًا، مستشعرًا أن الحديث يتخذ منحى أكثر تعقيدًا. “تنسيق؟ ماذا تقصد؟”

“إذن لماذا الدماء لا تزال رطبة؟”

 

 

ضيق إيفان عينيه وسأل: “هل تعتقدين أنه من طائفة الطلسم الفاني؟”

توقف الزمن للحظة، وكأن الغرفة بأكملها كانت تنتظر إجابتها. هزت كتفيها بتردد، وقالت: “لا أعلم.”

 

 

صمت فريدريك للحظة، ثم رفع رأسه ببطء، وكأنه يعيد شريط الذكريات المؤلمة في ذهنه. “حاولت أن أتجاهل الأمر، لكن الحقيقة كانت أكبر مما أستطيع تحملها.”

اقترب إيفان من المذبح، وملامح وجهه توحي بمزيج من الفضول والرعب. كانت العظام منحوتة بشكل دقيق، وكأنها شكلت بشكل طبيعي لتتخذ هذه الهيئة. همس بصوت منخفض: “كيف تم صنع هذا الشيء؟”

 

 

 

رد ثيودور، الذي كان يقف بالقرب، بنبرة باردة: “أعتقد أنه نُحِت أو نَمَا بطريقة غير طبيعية. يبدو وكأنه حي، لكنه متجمد في لحظة ما.”

 

 

ابتسمت كلارا برفق، لكن البرود لم يختفِ من صوتها: “بعد مراجعة كل الملفات، قمت بإعادة تصنيفها للإشارة إلى ارتباطها. لا أخطط لفعل ذلك دائمًا، لكن هذه الشذوذات الثلاثة متصلة بطريقة تتجاوز الأحداث الفردية.”

نظر إيفان إلى المذبح بعينين متسعتين: “ما هذا السحر؟”

“لم أنم منذ استيقاظي… الألم لا يفارقني.” أجاب إيفان بصوت متحجر، تعبيرات وجهه تعكس الألم الداخلي الذي يعيشه.

 

 

أجابت إليزابيث بصوت منخفض، وكأنها تهمس لنفسها: “إنه نوع من السحر العضوي… ‘سحر اللحوم’. يستخدم للتحكم في النمو الطبيعي للمادة الحية. نوع من السحر البدائي المرتبط بالطوائف القديمة.”

لم يصدق إيفان ما سمعه. توقف للحظة، كأن عقله يحاول استيعاب الأمر. “المكتبة؟ فعلاً؟! نطق بالكلمات ببطء، وكأن صدى ما قيل للتو أعاد إليه ذكريات غامضة. فكرة التعاون مع المكتبة كانت أبعد مما قد تخيل، فالمكتبة لطالما كانت مصدرًا للأسرار المحظورة والمخاوف التي لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها.

 

 

ضيق إيفان عينيه وسأل: “هل تعتقدين أنه من طائفة الطلسم الفاني؟”

 

 

 

ابتسمت إليزابيث بمرارة، وقالت: “ربما. هم بالتأكيد يستخدمون هذا النوع من السحر.”

 

 

 

نظر إيفان مجددًا إلى المذبح، وكأن هناك شيئًا غامضًا يجذبه نحو هذا الشيء. “لدينا كاهن كارسيست في القصر الشمالي. ربما يجب أن أطرح عليه بعض الأسئلة حول هذا.”

وفي نهاية هذا الممر المتعرج، ظهر أمامهم المنزل. كان بناءً ضخماً، يظهر ككائن مهيب في وسط الظلام. واجهته الأمامية كانت تزينها أعمدة حجرية شاهقة، متآكلة بفعل الزمن، تقف متباعدة وكأنها أسنان متكسرة. على جانبي الباب الكبير، كانت الأبواب محاطة بزخارف حديدية ملتوية، كما لو أنها تحاول الإمساك بأي شخص يجرؤ على الاقتراب. الجدران العالية مغطاة بطبقة من النباتات المتسلقة، أوراقها تلتف حول الطوب القديم مثل أصابع ميتة تبحث عن حياة لم تعد موجودة.

 

 

تقدمت إليزابيث بخطوة وقالت: “ألم يكن في موقع الآثار  عندما اختفى؟”

نهض الدكتور مغادرًا الغرفة بهدوء، لكنه لم يدرك أن إيفان لم يكن يستمع. لقد كان يغوص في أفكاره. 

 

نهض إيفان ببطء، يشد كتفيه المتعبين، ويدلك رقبته المتصلبة. “تقريبًا… ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا، كلارا؟”

“نعم، هذا صحيح. لكنه قد يعرف شيئًا.”

دخلت كلارا كرافت، المديرة الصارمة للمركز الطبي، بخطوات واثقة. كانت ترتدي زيًا أنيقًا يشع بالاحترافية، ولكن أكثر ما لفت الانتباه كان البرود الذي يحيط بها، مثل هالة من الثلج حولها. جلست على كرسي قريب، ووضعت ساقًا فوق الأخرى بخفة، بينما كانت توازن ثلاثة ملفات سميكة على ركبتيها.

 

“أعلم أنك أنت وفريق العمليات الخاصة كنتم جزءًا من عملية معقدة، لكن ما حدث يُفسر بالعلم. ذهبت إلى مكان بعيد… واقع غريب، تعرضت لأمور تفوق الإدراك.” قال الدكتور محاولًا إظهار فهمه للوضع، لكنه لم يكن يدرك حجم الفوضى التي عايشها إيفان.

تقدم إيفان نحو المذبح ببطء، كان بإمكانه أن يشعر بالقوة الغريبة المنبعثة منه. ركع أمامه، وتأمل في تفاصيله الدقيقة: العظام المتشابكة، الأوتار المتداخلة، والجلد الذي كان يغطي أجزاء منه. بدا المذبح وكأنه مخلوق حي، لكنه متجمد في لحظة معينة من الزمن. “ماريا، هل هذا الشيء نشط؟”

 

 

أخذ فريدريك نفسًا عميقًا، ورأى إيفان أن قبضتيه كانتا ترتجفان بشكل طفيف. “لقد ماتوا جميعًا، كلهم… المخلوقات اقتحمت المكان، ومزقتهم إربًا. لم يكن بوسعي فعل شيء، سوى المشاهدة.”

أجابت إليزابيث: “هناك بقايا من السحر الفاسد، لكنني أعتقد أن قدرتك على تحسس السحر قد تكون قادرة على تعطيل أي شيء متبقٍ.”

 

 

“أنا لا أقول أنني لم أتحسن. لكنني لم أعد كما كنت. هذا الشيء أفسدني.”

أخذ إيفان نفسًا عميقًا، ثم قال: “احذري مني.” مد يده بحذر، ولَمَس المذبح بأطراف أصابعه. كان البرد يسري في جسده وكأنه يتغلغل إلى عظامه.

 

 

“النتائج… طبيعية تمامًا. لا توجد مشاكل عضوية.” 

وفجأة، تحول العالم من حوله. لم يعد في المبنى، ولم يعد يسمع أصوات الجنود أو يشعر بالهواء الرطب. كان في مكان آخر، مظلم تمامًا. شعر وكأنه يسقط من مكان مرتفع، لكن لم يكن هناك أرض تحت قدميه. كانت السماء مليئة بالضباب، والأفق يتلاشى في العدم. أصابته دوامة من الدوار، وعيناه تحاولان التكيف مع الظلام المتزايد.

 

 

 

ما هذا المكان؟ 

“أفهم ذلك، لكن الاختبارات التي أجريناها عليك تشير إلى أنك في حالة جيدة.” قال الدكتور بحذر، محاولًا تهدئة الوضع.

 

“صباح الخير،” قال فريدريك بصوت مبحوح، تردد في نبرته لكنه لم يخلُ من شيء يشبه السخرية.

مِلكِي…

 

 

 

اجتاحت جسده موجة باردة، وكأن روحه تُسحب منه. شعر بجوع عميق، جوع يلتهمه من الداخل. الضباب كان يتسلل إلى داخله، يملأ فمه وأذنيه وعينيه. ثم جاء الألم… ألم لا يوصف. 

“كيف تشعر هذا الصباح، ديمونت؟” سأل الدكتور بنبرة هادئة، محاولًا إخفاء قلقه المتزايد.

 

وضع فريدريك رأسه بين يديه، محنيًا جسده النحيل فوق الطاولة، مرفقيه يرتكزان على سطحها البارد. بدا أن التفكير في الأحداث يعيد له ذكريات ثقيلة. “المخلوقات لم تكن كما بدت في البداية… لقد تغيرت. عندما واجهناها أول مرة، هاجمت بوحشية، بلا نظام. لكنها لاحقًا… بدت وكأنها تعمل بتنسيق.”

 

 

 

 

 

 

كان استخراج  إيفان من الواقع البديل المسمى “الضباب المكسور” أشبه بمحاولة الإمساك بظلال ذاكرة بعيدة. الصور والأصوات كانت تتلاشى من ذهنه، مخلفة وراءها ضبابًا ثقيلاً يضغط على صدره. كل شيء كان يبدو مشوشًا وكأنما خرج لتوه من حلم طويل وكابوسي. الأطباء أخبروه لاحقًا أنه كان يهذي حين أُدخل إلى المستشفى، يهتف بكلمات غير مفهومة، يحرك يديه في الهواء وكأنه يطارد أشباحًا. عدوانيته تجاه الموظفين كانت شديدة، حتى أن بعضهم وصفه بالمسكون أو الملعون. بعد عدة أيام من المقاومة، قرروا وضعه في غيبوبة صناعية، جسده وروحه بحاجة إلى الراحة، إلى الهدوء. تلك الغيبوبة كانت فرصة لجسده ليشفى، وعقله ليعيد ترتيب قطع أحجيته المبعثرة، بمساعدة تطهير سحري دقيق كان يُجرى في الخفاء.

صمت إيفان لبرهة، محاولاً البحث عن الكلمات. “لقد أمضيت عامًا كاملًا في العمل على هذه القضايا في مدينة فالدروك، وها أنا اليوم لا أزال عالقًا في هذا الكابوس. لماذا لا تخبرينني فقط لماذا يجب ألا أستقيل؟”

 

الطرق كانت ضيقة، الجدران المتهالكة على جانبي الشارع تتكدس فوق بعضها البعض، تشقها نوافذ صغيرة ذات إطارات خشبية باهتة، تغطيها الستائر الثقيلة التي لا تُفتح أبدًا. الواجهات كانت قديمة، يغلب عليها اللون الداكن بفعل الغبار الذي تراكم على مر العقود. الأبواب العتيقة المصنوعة من خشب البلوط تزينها زخارف معقدة، لكنها فقدت بريقها منذ زمن طويل، محفورة بأثر الزمن والرطوبة. كان بوسع أي مارة أن يشعروا بأن هذه الأبنية قد شهدت أكثر مما تتحمله.

عندما استيقظ، كان العالم من حوله يبدو غريبًا، كأنما ينظر إلى واقعه من وراء زجاج مغبش.

 

 

أخذ إيفان نفسًا عميقًا، ثم قال: “احذري مني.” مد يده بحذر، ولَمَس المذبح بأطراف أصابعه. كان البرد يسري في جسده وكأنه يتغلغل إلى عظامه.

زارته إليزابيث مرارًا منذ استيقاظه، وملامح وجهها مغطاة بالأسى والندم، تعتذر عن عدم قدرتها على إدراك ما حدث له في الوقت المناسب. 

 

 

 

لم يكن هذا خطأها على أي حال. لم يكن ما حدث نتيجة سحر، بل كان شيئًا آخر. كيان فضائي هائل، غريب من عالم آخر، كان يتغذى على المفاهيم بشكل عنيف ومروع. في عمق هذا الكيان كان الجوع، جوع غير مرئي يعذب العقل ويهز الوعي. إيفان كان يعاني من مرارة استحالة التصدي لهذا الكيان، وكان يتساءل في نفسه: “كيف كان بإمكانها أن تعلم؟”

دخلت كلارا كرافت، المديرة الصارمة للمركز الطبي، بخطوات واثقة. كانت ترتدي زيًا أنيقًا يشع بالاحترافية، ولكن أكثر ما لفت الانتباه كان البرود الذي يحيط بها، مثل هالة من الثلج حولها. جلست على كرسي قريب، ووضعت ساقًا فوق الأخرى بخفة، بينما كانت توازن ثلاثة ملفات سميكة على ركبتيها.

 

فرد فريدريك ظهره قليلاً، نظرته أصبحت أكثر عمقًا وعيونه مملوءة بشيء من الظلال. “لا، لم يكن تخاطرًا. لو كان كذلك، لشعرت به. كان الأمر أشبه بشيء أعظم منهم جميعًا يتحكم فيهم من الخلف ولهذا السبب أحتاج إلى العودة إلى هناك.”

في قلبه، كانت مشاعر الندم والتساؤل تتصارع. كان يعلم أنه لا يمكن لوم إليزابيث بالكامل، فحتى لو كانت قريبة منه، فإن الغموض الذي أحاط بالكيان كان أكبر من أي تفسير بسيط. فريدريك الذي كان يعتبره مصدرًا للمعرفة، كان قد غمره في ضباب من الغموض، ويبدو أن كل التفاصيل كانت مفقودة في تفاصيل هذا الكيان القاسي. “كيف كان يمكنني أن أعلم أن هذا الكيان كان يتواجد في كل شيء من حولنا؟” تساءل بمرارة، وهو يحاول التقاط شظايا الذاكرة الضبابية والغامضة التي تجمعت في عقله. 

أصوات خطوات الأطباء في الممر البعيد كانت تكاد تُسمع، لكن إيفان لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. ما سمعه للتو كان يُرسخ إحساسه بأن شيئًا خاطئًا يحدث داخله.

 

على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”

 

“ليس تمامًا، لكنه جزء من الأمر. تم نقله مرة أخرى إلى ‘الظلال المحجوبة’، وأغلقنا البوابة خلفه. قال إن وجوده هناك هو الشيء الوحيد الذي يمنع الكيان من العودة إلى عالمنا.”

بينما كان إيفان يمارس تمارينه اليومية على الأرضية، كان يشعر بجسده يُقاومه. كل عضلة كانت متصلبة، وكأنها غريبة عنه. كان الأمر وكأنه يعيد اكتشاف جسده، بعد أن عاش في جسد آخر لفترة طويلة. كانت هذه العودة إلى الجسد الطبيعي تشبه ارتداء بدلة جديدة لأول مرة، ضيقة على المقاس وغير مريحة. ربما كان الطبيب أندرسون محقًا؛ كان إيفان بحاجة إلى وقت أكثر للتعافي. لكن، بعد أن فقد سبعة أشهر من حياته بسبب ذلك الكيان اللعين، لم يكن إيفان مستعدًا لقضاء المزيد من الوقت في الانتظار.

 

 

كان العرق يتصبب من ظهره كأنه شلال صغير، بينما كانت أشعة الشمس الدافئة تتسلل عبر الزجاج المقوى لغرفة العلاج. الجو كان خانقًا، رغم برودة المكان، وكان كل شيء يبدو أصعب مما يجب. عضلاته كانت ترتجف، وذهنه كان مشوشًا، مثل سيفين يتصادمان في رأسه بلا هوادة. والأمر الأسوأ، تلك الرغبة المفاجئة التي كانت تعتمل في داخله طوال الوقت، شعور عدائي كاد أن يدفعه لمهاجمة كل من يقترب منه. لقد تغير شيء بداخله، شيء لا يستطيع فهمه حتى الآن.

 

 

 

“ربما عليّ أن أتحدث إلى فريدريك.”كان هذا التفكير يراوده باستمرار. “لم أكن أعلم حينها أنه قضى أكثر من عشرين عامًا في مراقبة ذلك الكيان اللقيط الذي يتغذى على الضباب.”

 

 

 

بينما كان يغرق في أفكاره المظلمة، قاطعه صوت ناعم لكنه مهيب، بلكنة سلافية ثقيلة، “أنت تبدو أفضل حالاً، يا إيفان.” جاء الصوت من مدخل الغرفة، متبوعًا بخطوات خفيفة لكنها واثقة تملأ الفراغ.

 

 

“هل قرأت ملفي؟ ملف 7523؟” سأله إيفان بنبرة تملؤها الشك.

لم يرفع إيفان عينيه عن الأرض وهو يستعد لإنهاء تمرينه. كانت الحصيرة تحت جسده دافئة بفعل الحرارة المتصاعدة من جسده. همس بصوت متعب: “السيدة المديرة… ما الذي أتى بك إلى هنا؟”

 

 

 

دخلت كلارا كرافت، المديرة الصارمة للمركز الطبي، بخطوات واثقة. كانت ترتدي زيًا أنيقًا يشع بالاحترافية، ولكن أكثر ما لفت الانتباه كان البرود الذي يحيط بها، مثل هالة من الثلج حولها. جلست على كرسي قريب، ووضعت ساقًا فوق الأخرى بخفة، بينما كانت توازن ثلاثة ملفات سميكة على ركبتيها.

بينما كان يغرق في أفكاره المظلمة، قاطعه صوت ناعم لكنه مهيب، بلكنة سلافية ثقيلة، “أنت تبدو أفضل حالاً، يا إيفان.” جاء الصوت من مدخل الغرفة، متبوعًا بخطوات خفيفة لكنها واثقة تملأ الفراغ.

 

ثم أكملت كلارا كلامها بنبرة هادئة لكنها جادة: “تم رفع التقرير إلى الوزير السابع، وقد تم طلب التعاون مع المكتبة.”

“هل انتهيت من تمارينك؟” سألت بنبرة رسمية، لا تهتم كثيرًا بالإجابة.

 

 

إيفان لم يرد، لكنه شعر بنفس الانزعاج. عادةً ما كانت هذه الشوارع تعج بالناس قبل غروب الشمس، لكن الآن، كان الصمت هو الحاكم. الرياح، رغم قسوتها، لم تُصدر سوى صوت خافت وهي تعبث بأطراف المعاطف الثقيلة، مما زاد من وطأة الترقب في قلوبهم. الليل كان مختلفًا هذه المرة، وكانت الكتيبة تشعر بهذا.

نهض إيفان ببطء، يشد كتفيه المتعبين، ويدلك رقبته المتصلبة. “تقريبًا… ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا، كلارا؟”

نهض الدكتور مغادرًا الغرفة بهدوء، لكنه لم يدرك أن إيفان لم يكن يستمع. لقد كان يغوص في أفكاره. 

 

 

رفعت كلارا حاجبًا رفيعًا، ثم نقرت بخفة على الملفات التي تحملها. “حدثت بعض التطورات أثناء فترة نقاهتك، إيفان. تطورات تتعلق بما حدث في ‘الضباب المكسور’. وأحتاج منك أن تكون مستعدًا.”

 

 

 

أخذ إيفان نفسًا عميقًا، محاولًا كبح مشاعر التوتر التي بدأت تتراكم داخله. “هل يتعلق الأمر بـ فريدريك؟”

 

 

“وما الذي تقوله هذه النتائج؟” سأل إيفان، وهو يعرف مسبقًا أن الإجابة لن تكون مريحة.

“ليس تمامًا، لكنه جزء من الأمر. تم نقله مرة أخرى إلى ‘الظلال المحجوبة’، وأغلقنا البوابة خلفه. قال إن وجوده هناك هو الشيء الوحيد الذي يمنع الكيان من العودة إلى عالمنا.”

 

 

توقف الزمن للحظة، وكأن الغرفة بأكملها كانت تنتظر إجابتها. هزت كتفيها بتردد، وقالت: “لا أعلم.”

شعر إيفان بالغضب يشتعل بداخله. “لماذا أعادوه إلى هناك؟  ذالك المكان عبارة عن جحيم حي. 

لم يكن هذا خطأها على أي حال. لم يكن ما حدث نتيجة سحر، بل كان شيئًا آخر. كيان فضائي هائل، غريب من عالم آخر، كان يتغذى على المفاهيم بشكل عنيف ومروع. في عمق هذا الكيان كان الجوع، جوع غير مرئي يعذب العقل ويهز الوعي. إيفان كان يعاني من مرارة استحالة التصدي لهذا الكيان، وكان يتساءل في نفسه: “كيف كان بإمكانها أن تعلم؟”

 

تنهدت كلارا بصوت هادئ لكنها مستسلمة، وكأنها اعتادت على تلك الأسئلة الصعبة. “لقد طلب ذلك بنفسه إيفان. وأوضح أن هذا هو الحل الوحيد لإبقاء الكيان بعيدًا. لو بقي هنا، ربما كنا نخسر أكثر من مجرد حياة واحدة.”

 

 

 

أخذت المديرة الملفات الثلاثة، ووضعتها بين يديه. “أريدك أن تراجع هذه الملفات. الملف الأول عن ‘لغز الضباب المكسور’، الثاني يتعلق بـ ‘طائفة الظلال ، والثالث عن ‘الكيان الممزق’. ستفهم كل شيء بعد أن تقرأها.”

على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”

 

بينما كان يغرق في أفكاره المظلمة، قاطعه صوت ناعم لكنه مهيب، بلكنة سلافية ثقيلة، “أنت تبدو أفضل حالاً، يا إيفان.” جاء الصوت من مدخل الغرفة، متبوعًا بخطوات خفيفة لكنها واثقة تملأ الفراغ.

كانت يدي إيفان ترتجف بينما كان يمسك بالملفات. نظر إليها ثم قال بصوت ضعيف: “أنا لست في حالة جيدة يا كلارا. لا أستطيع… لا أستطيع التعامل مع كل هذا الآن. ما حدث لي… لقد دمرني.”

 

 

الليلة لم تكن كسابقاتها. الرياح، باردة بشكل غير معتاد، هبت عبر شوارع سيلفاريوم الضيقة وكأنها تهمس بأسرار قديمة منسية. تحت السماء المظلمة التي يهيمن عليها القمر الدموي، بدت الأبراج المتصدعة والأبنية البالية وكأنها هياكل عظمية عملاقة، شاهدة على عصر مضى، تركت لتنهار ببطء تحت وطأة الزمن.

 

 

 

على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”

 

 

“لا يوجد عودة إلى الوراء في هذه المرحلة؛ كل ما أحتاجه منك هو اللحاق بالتفاصيل. ‘لغز الضباب المكسور’ هو تحقيق بدأته كتيبة الفرسان التاسعة بشأن طائفة يبدو أن لها صلات بما يُعرف بـ ‘الكيان الممزق’. أما ملف طائفة الظلال’ فهو تحقيق لم تكن جزءًا منه، لكنه يرتبط بالأحداث التي واجهتها أثناء تحقيقنا في الشذوذ.”

 

 

 

إيفان عبس للحظة، ثم سأل بنبرة مستغربة: “لماذا تحمل الملفات هذه العلامة الموحدة؟ ألا يبدو هذا غير عادي بعض الشيء؟”

 

 

شعر إيفان بزيادة في دقات قلبه، إدراكه بأن هناك شيئًا أكبر يلوح في الأفق. “كيان؟ من هو هذا الكيان؟”

ابتسمت كلارا برفق، لكن البرود لم يختفِ من صوتها: “بعد مراجعة كل الملفات، قمت بإعادة تصنيفها للإشارة إلى ارتباطها. لا أخطط لفعل ذلك دائمًا، لكن هذه الشذوذات الثلاثة متصلة بطريقة تتجاوز الأحداث الفردية.”

 

 

جلست على حافة سرير المستشفى، تعبيرات وجهها تعكس تعقيدات الأمور التي لم تكن مستعدة لمواجهتها. بعد برهة، همست: “لماذا لا يوجد سلام في هذا العالم؟”

 

 

أخذ فريدريك نفسًا عميقًا، ورأى إيفان أن قبضتيه كانتا ترتجفان بشكل طفيف. “لقد ماتوا جميعًا، كلهم… المخلوقات اقتحمت المكان، ومزقتهم إربًا. لم يكن بوسعي فعل شيء، سوى المشاهدة.”

رد إيفان بلهجة رسمية وهو ينظر في عينيها، محاولاً ألا يُظهر الكثير من الشفقة: “لدي خطة جاهزة للتنفيذ، لكنني بحاجة إلى الموافقة أولاً. بعد الحصول على تلك الموافقة، سأبدأ التنفيذ.”

“وما الذي تقوله هذه النتائج؟” سأل إيفان، وهو يعرف مسبقًا أن الإجابة لن تكون مريحة.

 

كانت يدي إيفان ترتجف بينما كان يمسك بالملفات. نظر إليها ثم قال بصوت ضعيف: “أنا لست في حالة جيدة يا كلارا. لا أستطيع… لا أستطيع التعامل مع كل هذا الآن. ما حدث لي… لقد دمرني.”

حدّقت كلارا في الملفات على السرير، ثم نظرت إليه بفضول وهي تسأله: “إلى أين ستذهب؟”

اقترب إيفان من المذبح، وملامح وجهه توحي بمزيج من الفضول والرعب. كانت العظام منحوتة بشكل دقيق، وكأنها شكلت بشكل طبيعي لتتخذ هذه الهيئة. همس بصوت منخفض: “كيف تم صنع هذا الشيء؟”

 

 

رد عليها ببرود مختصر: “هذا الأمر سر، آسف.” كانت كلارا تتوقع الإجابة، لكنها لم تستطع إلا أن تشعر بخيبة أمل خفيفة.

 

 

“مع كل احترامي لك، هذا مجرد هراء علمي!” صرخ إيفان فجأة، غاضبًا من تلك التفسيرات الباردة. “ما رأيته لم يكن مجرد هلوسة. هناك شيء في هذا العالم يريد أن يبتلع كل شيء. إنه ضخم، غريب… ويسيطر على كل ذرة حوله.”

تنهّد إيفان ببطء، ونظر إلى الملفات المتناثرة أمامه. كانت ثقيلة، ليست فقط بوزنها المادي، ولكن بثقلها المعنوي. أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يعترف بصوت منخفض: “لا أعرف ماذا أفعل هنا. ليس لدي القوة للغوص في كل هذا بعد الآن.”

 

 

كانت يدي إيفان ترتجف بينما كان يمسك بالملفات. نظر إليها ثم قال بصوت ضعيف: “أنا لست في حالة جيدة يا كلارا. لا أستطيع… لا أستطيع التعامل مع كل هذا الآن. ما حدث لي… لقد دمرني.”

إيفان لم يكن مستعدًا للاعتراف بضعفه، لكن هذا ما كان يشعر به بوضوح. جسده كان مستنزفًا، وروحه ثقيلة. 

رفعت كلارا حاجبًا رفيعًا، ثم نقرت بخفة على الملفات التي تحملها. “حدثت بعض التطورات أثناء فترة نقاهتك، إيفان. تطورات تتعلق بما حدث في ‘الضباب المكسور’. وأحتاج منك أن تكون مستعدًا.”

 

اقترب إيفان من المذبح، وملامح وجهه توحي بمزيج من الفضول والرعب. كانت العظام منحوتة بشكل دقيق، وكأنها شكلت بشكل طبيعي لتتخذ هذه الهيئة. همس بصوت منخفض: “كيف تم صنع هذا الشيء؟”

نظرت إليه بتعاطف غريب، وملامحها شاحبة من التفكير. “ماذا تقصد؟”

“النتائج… طبيعية تمامًا. لا توجد مشاكل عضوية.” 

 

 

وقف إيفان للحظة، شعوره بالعجز يزداد. “أنا لست باحثًا يا كلارا. أنا مجرد رجل اكتشف فجأة أن لديه قدرات سحرية وحدث أن تم تجنيده، وسعدت بإيجاد مكان لي في جيش الملك، لكن ما حدث في هذا العام كان أبعد من طاقتي. الحقيقة هي أنني لا أستطيع مواكبة كل هذه الفوضى.”

 

 

 

ارتسمت على وجه كلارا تعبيرات من يفهم تمامًا ما يعنيه. قالت بنبرة هادئة لكنها حازمة: “أنت شخص قوي، إيفان، لا يمكنك التراجع الآن.”

لم يرفع إيفان عينيه عن الأرض وهو يستعد لإنهاء تمرينه. كانت الحصيرة تحت جسده دافئة بفعل الحرارة المتصاعدة من جسده. همس بصوت متعب: “السيدة المديرة… ما الذي أتى بك إلى هنا؟”

 

 

صمت إيفان لبرهة، محاولاً البحث عن الكلمات. “لقد أمضيت عامًا كاملًا في العمل على هذه القضايا في مدينة فالدروك، وها أنا اليوم لا أزال عالقًا في هذا الكابوس. لماذا لا تخبرينني فقط لماذا يجب ألا أستقيل؟”

ابتسمت إليزابيث بمرارة، وقالت: “ربما. هم بالتأكيد يستخدمون هذا النوع من السحر.”

 

تقدم إيفان نحو المذبح ببطء، كان بإمكانه أن يشعر بالقوة الغريبة المنبعثة منه. ركع أمامه، وتأمل في تفاصيله الدقيقة: العظام المتشابكة، الأوتار المتداخلة، والجلد الذي كان يغطي أجزاء منه. بدا المذبح وكأنه مخلوق حي، لكنه متجمد في لحظة معينة من الزمن. “ماريا، هل هذا الشيء نشط؟”

ظلت كلارا صامتة لبرهة، تجلس منتصبة، ويديها متشابكتين على حجرها. عيناها كانت تحدق في الفراغ كما لو كانت تراجع ذكريات مؤلمة، قبل أن تتنفس ببطء وتبدأ الحديث: “أردت مناقشة ذلك بعد أن تقرأ الملفات، لكن لا بأس. لدي شعور قوي بأن الجثة التي وجدناها تحت مدينة فالدروك لم تكن حالة فريدة من نوعها. لدينا المزيد من الأدلة.”

لم يكن هذا خطأها على أي حال. لم يكن ما حدث نتيجة سحر، بل كان شيئًا آخر. كيان فضائي هائل، غريب من عالم آخر، كان يتغذى على المفاهيم بشكل عنيف ومروع. في عمق هذا الكيان كان الجوع، جوع غير مرئي يعذب العقل ويهز الوعي. إيفان كان يعاني من مرارة استحالة التصدي لهذا الكيان، وكان يتساءل في نفسه: “كيف كان بإمكانها أن تعلم؟”

 

إيفان عبس للحظة، ثم سأل بنبرة مستغربة: “لماذا تحمل الملفات هذه العلامة الموحدة؟ ألا يبدو هذا غير عادي بعض الشيء؟”

تجمد إيفان في مكانه للحظة، ثم سأل بدهشة: “ماذا تقصدين؟ هل هناك المزيد من الكيانات المماثلة لذلك اليعسوب العملاق؟”

رد ثيودور، الذي كان يقف بالقرب، بنبرة باردة: “أعتقد أنه نُحِت أو نَمَا بطريقة غير طبيعية. يبدو وكأنه حي، لكنه متجمد في لحظة ما.”

 

“صباح الخير، فريدريك،” رد إيفان بحذر، مدركًا أن هذه الجلسة ستكون أصعب مما توقع. “هل نمت جيدًا؟ هل كانت غرفتك مريحة بما فيه الكفاية؟”

أومأت كلارا برأسها ببطء: “نعم، وأعتقد أنها ليست الوحيدة. تذكّر تلك الجثة التي اكتشفناها، اليعسوب العملاق الذي له أطراف شبيهة بأيدي البشر؟ نحن الآن نعتقد أنها ليست كيانًا منفردًا، بل جزء من سلسلة من الشذوذات.”

 

 

نهض الدكتور مغادرًا الغرفة بهدوء، لكنه لم يدرك أن إيفان لم يكن يستمع. لقد كان يغوص في أفكاره. 

استدار إيفان، شعوره بالقلق يتزايد. “هل تتحدثين عن احتمال وجود المزيد من هذه البزاقات العملاقة؟”

 

 

 

ردت عليه بصوت ثابت: “لا أستطيع إثبات ذلك بعد، لكن إذا قرأت ملفات ‘لغز الضباب المكسور’ و طائفة الظلال، أعتقد أنك ستفهم ما أعنيه.”

 

 

أخذ إيفان نفسًا عميقًا، ثم قال: “احذري مني.” مد يده بحذر، ولَمَس المذبح بأطراف أصابعه. كان البرد يسري في جسده وكأنه يتغلغل إلى عظامه.

وقف إيفان، جسده مشدود بالضغط، وقال: “لماذا أشعر أن هناك شيئًا آخر لم تخبريني به بعد؟”

 

 

انحنى فريدريك ببطء، وضعية جسده أصبحت مثقلة بالندم. “لأنني اتصلت به… الكيان الذي كان يسيطر عليهم.”

تنهدت كلارا ببطء، وأخذت لحظة لتجميع أفكارها قبل أن ترد: “هناك طائفة صغيرة تعمل على تعديل البشر بطرق غامضة لا نفهمها بعد، ويقودها شخص يُدعى السيد ليل . هذا الرجل تواصل مع كيان على الأقل مشابه لذلك الذي واجهناه أثناء التحقيق في ‘الكيان الممزق’.”

 

 

تقدم إيفان بخطوات حذرة، وعيناه تتفحصان المذبح. “هل تم استخدامه مؤخرًا؟”

شعر إيفان بأن قلبه ينبض بسرعة متزايدة، وبدأت علامات القلق تظهر على ملامحه. “هل لهذا أي علاقة بالكيان الذي تعقبني سابقا؟”

رمقه فريدريك بنظرة مستقيمة وحادة، وكأنه يتفحصه بدقة أكبر مما هو ظاهر. “أفضل بكثير من الأيام التي قضيتها بين أنقاض ذالك المكان.”

 

على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”

“ربما، لكن هذا غير واضح تمامًا. ما هو واضح هو أن الوضع أكبر مما يمكن لكتيبتنا التعامل معه بمفرده. نحن بحاجة إلى توسيع فرق البحث، وإلى إطلاق برنامج جديد يركز على اكتشاف الشذوذ، وربما استخدام تقنيات خارج نطاق قدرتنا . لأنني إذا كنت على حق، فإن السيد ليل ورعاته لم يقتربوا حتى من إنهاء تدخلهم في عالمنا.”

أخذ فريدريك نفسًا عميقًا، ورأى إيفان أن قبضتيه كانتا ترتجفان بشكل طفيف. “لقد ماتوا جميعًا، كلهم… المخلوقات اقتحمت المكان، ومزقتهم إربًا. لم يكن بوسعي فعل شيء، سوى المشاهدة.”

 

وضع فريدريك رأسه بين يديه، محنيًا جسده النحيل فوق الطاولة، مرفقيه يرتكزان على سطحها البارد. بدا أن التفكير في الأحداث يعيد له ذكريات ثقيلة. “المخلوقات لم تكن كما بدت في البداية… لقد تغيرت. عندما واجهناها أول مرة، هاجمت بوحشية، بلا نظام. لكنها لاحقًا… بدت وكأنها تعمل بتنسيق.”

حدّق إيفان في الملفات أمامه، وبدأت الأفكار تتداخل في ذهنه.

 

 

وقف إيفان، جسده مشدود بالضغط، وقال: “لماذا أشعر أن هناك شيئًا آخر لم تخبريني به بعد؟”

 

 

 

 

ثم أكملت كلارا كلامها بنبرة هادئة لكنها جادة: “تم رفع التقرير إلى الوزير السابع، وقد تم طلب التعاون مع المكتبة.”

إيفان لم يكن مستعدًا للاعتراف بضعفه، لكن هذا ما كان يشعر به بوضوح. جسده كان مستنزفًا، وروحه ثقيلة. 

 

 

لم يصدق إيفان ما سمعه. توقف للحظة، كأن عقله يحاول استيعاب الأمر. “المكتبة؟ فعلاً؟! نطق بالكلمات ببطء، وكأن صدى ما قيل للتو أعاد إليه ذكريات غامضة. فكرة التعاون مع المكتبة كانت أبعد مما قد تخيل، فالمكتبة لطالما كانت مصدرًا للأسرار المحظورة والمخاوف التي لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها.

 

 

“مع كل احترامي لك، هذا مجرد هراء علمي!” صرخ إيفان فجأة، غاضبًا من تلك التفسيرات الباردة. “ما رأيته لم يكن مجرد هلوسة. هناك شيء في هذا العالم يريد أن يبتلع كل شيء. إنه ضخم، غريب… ويسيطر على كل ذرة حوله.”

---

ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن

أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات
لا تنسى وضع تعليق للمترجم فهذا يساعده على الاستمرار ومواصلة العمل عندما يرى تشجيعًا.

Comment

اعدادات القارئ

لايعمل مع الوضع اليلي
لتغير كلمة إله الى شيء أخر
إعادة ضبط